أهلا بك زائرنا الكريم في منتدى الشعب يدعوكم السيد المدير''ayb hdr'' إلى التسجيل للحصول على آخر المواضيع و أجملها في جميع أقسام المنتدى

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

أهلا بك زائرنا الكريم في منتدى الشعب يدعوكم السيد المدير''ayb hdr'' إلى التسجيل للحصول على آخر المواضيع و أجملها في جميع أقسام المنتدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مكانة السنة في بيان الأحكام الإسلامية

اذهب الى الأسفل

 مكانة السنة في بيان الأحكام الإسلامية Empty مكانة السنة في بيان الأحكام الإسلامية

مُساهمة من طرف ayb الأحد يناير 29, 2012 10:51 am

مكانة السنة في بيان الأحكام الإسلامية
والرد على ما أثير من شبهات حول حجيتها أو روايتها


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فبالله أستعين:
معنى السنة:
تطلق السنة لغة على السيرة: حسنة كانت أم قبيحة[1]، وعن هذا الإطلاق قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم في صحيحه: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء[2]، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)).
كما تطلق على الطبيعة، وعلى حكم الله سبحانه وتعالى وتدبيره، ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[3]، وهي في لسان علماء الشريعة الإسلامية تطلق على ما يأتي:
ففي اصطلاح رجال الحديث - وبخاصة من كتب في السير والمغازي - تطلق على كل ما أثر عن الرسول - صلوات الله عليه - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو سيرة، أو خلق، أو شمائل، أو أخبار، أو صفات خلقية، دون نظر إلى ما قد يثبت به حكم شرعي، أو ما لا يثبت به حكم، وسواء في ذلك ما كان بعد البعثة، وما كان قبلها.

وفي اصطلاح الأصوليين: تطلق على أقواله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أفعاله وتقريراته، مما يدل على حكم شرعي.
وكثيرًا ما يستعملها الفقهاء بهذا المعنى، كما يستعملونها في كل ما ثبت فعله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يكن فرضًا ولا واجبًا، فتطلق على ما ندب فعله، مما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يداوم عليه، وهي بهذا المعنى تقابل الفرض والواجب وغيرهما من الأحكام الخمسة، وبهذا الإطلاق قيل: صلاة ركعتين قبل صلاة الصبح سنة، وصلاة ركعتين بعد صلاة الظهر سنة.
وقد تطلق في لسانهم أيضًا على ما يقابل البدعة، مثل قولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا[4].

ونريد بالسنة في موضوعنا ما عناه علماء الأصول؛ لأنها بهذا المعنى من وسائل بيان الأحكام، وعن مكانتها وبيان الأحكام وضع هذا البحث.
هذا وقد يستعمل اسم الحديث أو الأثر أو الخبر، حيث يستعمل اسم السنة - وهو استعمال يقتضي بيان معانيها، وما قد يكون بينها من اختلاف - فالحديث والأثر كلاهما يرادف السنة بالمعنى العام الذي يستعملها فيه المحدثون، وهذا عند الجمهور، ومن المحدثين من يرى أن الحديث أعم من السنة، إذ الحديث عنده ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء أكان عليه العمل أم لا، أما السنة فلا تطلق إلا على ما كان عليه العمل المأثور في الصدر الأول، ولذا قد يرد من الأحاديث ما يوصف بأنه يخالف السنة المعمول بها، فيدعو ذلك إلى التوفيق أو الترجيح بينهما، ويظهر هذا الاختلاف بين الاسمين في قول عبدالرحمن بن مهدي عندما سئل عن سفيان الثوري، والأوزاعي، ومالك: سفيان الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومالك إمام فيهما[5]، أما الخبر فيستعمله المحدثون فيما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين من الأحاديث المرفوعة، أو الموقوفة، أو المقطوعة، ويراه الجمهور مرادفًا للأثر، إذ يستعملون كلاًّ منهما فيما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أضيف إلى الصحابة والتابعين مما سبق بيانه؛ ولكن فقهاء خراسان يسمون الموقوف أثرًا، والمرفوع خبرًا[6]، وكثيرًا ما يقصر الأثر على ما يروى عن الصحابي مضافًا إليه دون رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن يروى عن الصحابي أنه كان يقول: كنا نفعل كذا - من غير أن يضيف ذلك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي نخبة شيخ الإسلام يطلق الأثر على الموقوف والمقطوع، والفقهاء يستعملون اسم الأثر أحيانًا فيما يروى من السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا أو موقوفًا أو غير ذلك، وأحيانًا يستعملونه مضافًا إلى سببه كقولهم أثر العقد، وأثر الفسخ، وأثر الإقرار، وهذا استعمال لغوي.

وجملة القول: إن استعمال هذه الأسماء على العموم لم يكن على وضع تتحدد به معانيها، وتتميز به بعضها من بعض، وإنما كان استعمالها في لسان المحدثين والفقهاء أحيانًا قائمًا على أساس اشتراكها في المعنى والدلالة، إما نتيجة لترادفها فيما يرى بعضهم، وإما نتيجة لما بينها من عموم وخصوص.

ولسنا نريد بالسنة في موضوعنا هذا - حين نتكلم عن مكانتها في بيان الأحكام، وحين نرد ما أثير حولها وحول أسانيدها من شكوك وشبهات - إلا ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في محيط التشريع من قول، أو فعل، أو تقرير لأمر رآه، وبلغه عمن يكون مطيعًا منقادًا في ظاهر حاله لما جاء به - صلى الله عليه وسلم.

وهي على هذا المعنى إنما تكون فيما تناولته سيرته وطريقته في حياته - صلى الله عليه وسلم - مما كان له فيه اختيار بين أمرين أو أكثر، فاختار ما رآه أنه الأفضل، ولا تكون فيما كان يأتيه - صلى الله عليه وسلم - بطبيعته وإنسانيته، مما لا اختيار له فيه، ولا يختص به دون سائر الناس؛ بل يشاركه فيه جميع الناس؛ لأنه من مقومات الحياة وضروريات الوجود ولا اختيار فيه للبشر، كالأكل، والشرب، والنوم، واللبس، ونحو ذلك، أما ما يتعلق بتلك الأعمال ويتصل بها من كيفيات وأوضاع ووسائل ونحو ذلك، فإنه يعد من سنته - صلى الله عليه وسلم - ويتناوله اسم السنة بالمعنى الذي نريد؛ لأن له فيه اختيارًا، كان من آثاره تفضيل وضع على وضع، وإقدام على ما هو الأفضل والأنفع، فجاز أن يكون في ذلك إرشاد وهداية وتشريع، وعند ذلك يكون سنة تشريعية، كما يحتمل أن يكون ذلك قد حدث بحكم العادة الجارية والإلف المرغوب، والميل الوقتي، انقيادًا للظروف والملابسات، مما يبعده عن أن يكون من قبيل الإرشاد والهداية والسنة التشريعية، وإنما يعرف ذلك بالنظر والاجتهاد؛ ولذا فإنا نريد بالسنة هنا ما صدرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هداية للناس وشريعة لهم، فلا تتناول إلا ما أوحي به إليه، مما ليس بقرآن، أو وصل إليه بنظره وعرفه باستنباطه، فأقره الله عليه، وجماع ذلك ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - بيانًا لعقيدة، أو تعليمًا لعبادة، أو إرشاد إلى قربة، أو تهذيبًا لخلق، أو إصلاحًا لمعاملة، أو أمرًا بِمَعروف، أو نهيًا عن منكر، أو إبعادًا عن فساد، أو تحذيرًا من سوء، فكل ما أثر عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه النواحي يعد سنة وشريعة يطلب إلى الناس اتباعها، أما ما لا يتصل بذلك مما أشرنا إليه آنفًا، فلا يعد شريعة يطلب إلى الناس اتباعها، وإن عدَّ من السنة بمعناها العام؛ ذلك لأنه إنما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - على أنه من الأقوال أو الأعمال العادية المتكررة المباحة التي تدعو إليها حاجة البشر، وطبيعة الإنسان الحيوانية، وعاداته المعيشية، وعلى ذلك فإذا ما عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزراعة الأرض، وطرق استثمارها لبيان ما أحله الله من ذلك، وما يترتب عليه من حقوق وآثار، كان ذلك شريعة واجبة الاتباع، وإن عرض لذلك مبينا كيفية الزراعة وطريقة الغرس، والقيام على إصلاح الزرع والشجر وطرائق ريه ومواعيده، مما يعرف بطريق التجربة والخبرة، كان بيانه هذا إرشادًا تجريبيًّا، ورأيًا استنبطه من وسطه، يصيب فيه ويخطئ كغيره من الناس، ولا يعد شيء من ذلك شريعة تتبع، وإذا أخطأ فيه لم ينبهه الوحي إلى خطئه، يدل على ذلك ما أخرجه مسلم عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يأبرون النخل، فقال ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، فقال: ((لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا))، فتركوه فنفضت[7] فذكروا له ذلك، فقال: ((إنما أنا بشر: إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر))، وما أخرجه عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يلقحون فقال: ((لو لم تفعلوا لصلح)) قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: ((ما لنخلكم؟))، قالوا: قلت كذا وكذا، قال: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم))، وفي رواية عن طلحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الذي أشار به - صلى الله عليه وسلم - في أمر إلقاح النخل: ((إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن؛ ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله))[8].

ومدلول هذه الروايات الثلاث أن ما يحدث به - صلى الله عليه وسلم - عن ربه فذلك هو الدين الذي يجب اتباعه طاعةً لله، أما ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بأمور الدنيا فرأي يَرْتَئيه، وظن دفعه إليه حدسه، وملاحظته واستنتاجه، فهو كسائر البشر يصيب ويخطئ، وقد يكون غيره فيه أكثر تجربة، وأقوى اتصالاً وأعظم خبرة، فيكون في رأيه أقر إصابة.

ومن ذلك أن يشير بخطَّة حربيَّة أو ينزل بِجَيْشِه منزلاً يرى في النزول به المكيدة والحرب، فإن رأيه هذا لا يكون له من وجوب الطاعة؛ إلا ما لرأي غيره من الأمراء والقادة المحاربين الذي يصدرون في ذلك عن نظر وموازنة، فيصيبون مرة ويخطئون أخرى، ولا يكون دينًا أوحي به إليه، ويدل على ذلك متابعته - صلى الله عليه وسلم - لما رآه الحباب بن المنذر حين أشار عليه بأن ينزل على أدنى ماء من بدر، بدلاً عن نزوله حيث نزل في غزوة بدر، فقال له يا رسول الله: أهذا منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدَّم عنه أو نتأخر؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((بل هو الرَّأْيُ والحرب والمكيدة))، فقال الحباب: ليس هذا لك بمنزل، فانْهَضْ بالناس حتَّى نأتي أدنى ماء من القوم، فإني أعرف غزارته وصفاءه، فننزل ونغور ما عداه من الآبار ثم نبني حوضًا، فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد أشرت بالرأي))[9].

ومن ذلك مساومته في البيع والشراء إذا باع أو اشترى، فإن ما يطلبه من صاحبه في ذلك أو يعرضه عليه لا يعد دينًا يطلب اتباعه، يدل على ذلك ما كان بينه وبين جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - حين طلب إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع له بعيره فأبى، إذ لم يكن له غيره ولم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إباءه هذا معصية تستوجب لومًا، أخرج مسلم في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي، وضربه فسار سيرًا حسنًا لم يسر مثله، فقال: ((بعنيه بوقية))، قلت: لا، ثم قال: ((بعنيه بوقية))، فبعته بوقية، واستثنيت حمْلانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقد في ثمنه، ثم رجعت فأرسل في إثري فقال: ((تراني قد ماكسْتُك لآخذ جَملك؛ خذ جملك ودراهِمَك فهو لك))[10]، ويدل هذا على أن أمره - صلى الله عليه وسلم - جابرًا أن يبيعه الجمل لم يكن تشريعًا صادرًا عن وحي، وإنما كان مجرد رغبة عرضها على وجه المساومة، كما يفعل غيره من النَّاس حين يساوم فيما يرغب في شرائه.

ومثل ذلك ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - مع سلمة بن الأكوع، حين أصاب امرأة من سبي فزارة في غزوة غزاها مع أبي بكر - رضي الله عنه - وكان بنو فزارة أحلافًا لقريش، فاتَّهبها منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عاد بها إلى المدنية، فأبى، ثم استجاب بعد أن أعاد عليه الطلب، أخرج الإمام مسلم بسنده عن سلمة بن الأكوع قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر - رضي الله عنه - أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا، فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فعرسنا، ثم شن المغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبي - وانظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت السهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر، فنفلني أبو بكر بنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبًا، فلَقِيَنِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق، فقال: ((يا سلمة هب لي المرأة))، فقلت: والله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبًا، ثم لقيني رسول الله من الغد في السوق، فقال لي: ((يا سلمة هب لي المرأة - لله أبوك))، فقلت: هي لك يا رسول الله، فوالله ما كشفت لها ثوبًا، فبعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة، ففدا بها ناسًا من المسلمين كانوا أسارى بِمكة[11].

ومن هذا القبيل أمره - صلى الله عليه وسلم - بريرة حين شفع إليها لترجع إلى زوجها مغيث، حين اختارت نفسها عندما عتقت وهي تحته، فأبت معتذرة بكراهتها إياه - أخرج البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبريرة: ((لو راجعته))، فقالت يا رسول الله: أتأمرني؟ فقال: ((أنا أشفع))، فقالت: لا حاجة لي فيه[12].

ومثله ما كان يشير به - صلى الله عليه وسلم - في معالجة بعض الأمراض، فإنه قد لا يصدر في ذلك عن وحي، ولكن عن تجربة ومعرفة اكتسبها من بيئته، وقد يصدر عن إرشاد من الله يجب اتباعه، يدل على الأول ما أخرجه أبو داود بسنده عن أسامة بن شريك قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا، فقالوا: "يا رسول الله، أنتداوى؟" فقال: ((تداوَوا؛ فإن الله - عز وجل - لم يضع داءً إلا وضع له دواء غيرَ داء واحد: السام))، وما أخرجه مسلم وأبو داود عن جابر - رضي الله عنه -: بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا، وكذلك روى عمرو بن دينار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضًا فقال لأهله: ((أرسِلُوا إلى الطبيب)) فقال قائل: "أنتَ تقولُ ذلك، يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم؛ فإن الله - عز وجل - لم ينزل داء إلا أنزل له دواء))، ولو كان الطب من أمر أو شريعة يوحى بها إليه ما أرسل الطبيب إلى أبي، ولم يأمر باستدعاء الطبيب، ولأشار على الأعراب بالرجوع إليه في علاج أمراضهم[13].

وإذا ما صدر في شيء من ذلك عن وحي - كما في رواية البخاري عن أبي سعيد قال جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسقه عسلاً))، ثم أتاه الثانية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسقه عسلاً))، ثم أتاه فقال: فعلت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق الله وكذب بطن أخيك، أسقه عسلاً))، فسقاه فبرأ، فإنه يكون إرشادًا إلى ما فيه الشفاء دون تخلف عنه؛ ولكنه مع ذلك لا يقتضي قصر الشفاء عليه، وأن لا شفاء في غيره كما لا يستوجب وجوب المعالجة به دون غيره.

وكذلك الحال في لباسه - صلى الله عليه وسلم - هيئة ووضعًا وشكلاً، وفي طعامه نوعًا ولونًا وتناولاً، فمرد ذلك إلى عادات قومه، ومقتضيات وطنه، وجوه التي صارت له عادة، ولو عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جو آخر أو كان من غير العرب لتغير لباسه وطعامه تبعًا لذلك؛ ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - حين قدم إليه لحم الضب عافه، ولم يأكل منه، فقيل له: أهو حرام؟ قال: ((لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه))، أخرج البخاري عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة فأتى بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فقال بعض النسوة: أخبروا رسول الله بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده، فقلت: أهو حرام يا رسول الله؟ فقال: ((لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجِدُنِي أعافه))، قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر فلم ينهني.

فمثل هذه الأمور ما يشبهها، من هيئات جلوسه ونومه ومشيه، وكيفيات سيره وطريقة تناوله لطعامه، ونحو ذلك مما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى طبيعته، وجبلته، وكونه بشرًا يحيا حياة الناس، ويعيش عيشتهم، ويتقلب متقلبهم في أمور الدنيا، ومتطلبات الطبيعة الإنسانية: لم يكن فيها شارعًا، ولا تعد أعماله ولا أقواله فيها شريعة يؤخذ الناس باتباعها ويلامون على تركها، وإن دلَّ ذلك على إباحتها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم على معصية، وإذا روي عنه فيها - صلى الله عليه وسلم - ما يتضمن صيغة الأمر فهو في هذه الحال مجرد إرشاد، في الاحتفاظ بالتقاليد القومية، والعادات المرعيَّة، التي يكون لها حسنها وجمالها في بيئتها، بينما يكون لها عكس ذلك في بيئة أخرى، تختلف فيها العادات والتقاليد إلى أضدادها، مما يكون طرحه والخروج عليه أمرًا مذمومًا وفعلاً سيئًا في بيئته، كما هو الحال فيما ورد عن الرسول من ذلك، مراعاة في الاحتفاظ به وعدم الخروج عليه، من تلك العادات التي كانت للعرب حال حياته - صلى الله عليه وسلم.
ولكن إذا ما تبيَّن أنَّ أمرَهُ بِشَيْءٍ من ذلك إنَّما صدر للحافظ على خلق أو مروءة، أو لتجنب ضرر أو فساد، فإنه يكون حينئذٍ شريعة واجبة الطاعة، قد صدر في الأمر بها عن وحي لا عن عادة مرعية.

وبِهَذا البيان تحدد ما يعد من السنة شريعة واجبة الطاعة، وما نحن بصدد التعريف بمكانته في بيان الأحكام الشرعية.
مكانة السنة في بيان الأحكام الشرعية
كتاب الله وسنة رسوله هما المصدران الأساسيان لتقرير الأحكام وبيانها، وإليهما ترجع جميع المصادر الأخرى؛ ولكن الكتاب يعد المصدر الأول والأساس الذي تقوم عليه السنة ولا تختلف عنه، وكان لذلك أصل الأدلة بقول الله تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[14].
ويقول في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[15]، ويقول في سورة الأنعام: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}[16]، وفي فصلت: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[17]، والآيات في هذا المعنى عديدة كثيرة ونكتفي بما ذكرنا.

وقد جاءت السنة مفسرة للقرآن: تبين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتفصل أحكامه، وتوضح مشكله، فمن الفرائض والأحكام ما جاء في القرآن مجملة نصوصه، كالصلاة والزكاة، والحج، فلم يذكر في القرآن هيئاتها ولا تفاصيلها، فبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسُنَّته الفعلية والقولية: فبيَّن في الصَّلاة عددَها وكيفياتها وجميع ما يتعلق بها، وفي الزكاة أنواع ما تجب فيه من الأموال، ومقدار الواجب فيها وما يتصل بذلك، وفي الحج أفعاله، وكيفيته ومناسكه، ومن الأحكام ما جاء النص فيه مطلقًا مثل قول تعالى في آية المواريث من سورة النساء {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[18]، فقيدت السنة مطلق الوصية بأن جعلتها وصية لغير وارث، وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وصية لوارث))، ومن الأحكام ما جاء النص فيه عامًّا فخصصته السنة؛ مثل قوله تعالى في سورة النساء: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}[19] بعد بيانه المحرمات، فخصصته السنة بأن أخرجت من عمومه نكاح المرأة على عمتها وخالتها، كما أخرجت منه ما حرم نكاحه بسبب الرضاع، ممن لم يذكر في الآية قبله، وهو ما تناوله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب))؛ كما فصلت السنة كثيرًا مما حرمه الله بمقتضى نصوص القرآن العامة؛ مثل قوله تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[20] إلى غير ذلك من بيانها وتفصيلها للأحكام الشرعية.

ثم هي مع هذا البيان إذا أتت بزيادة إذا أتت بزيادة عن القرآن يجب ألاَّ تتعارض مع أصوله العامة وقواعده الأساسية؛ بل تدور في محيطه غير متجاوزة نطاقه، وذلك شأن التابع مع المتبوع فكانت بسبب ذلك تابعة له، إذ التفسير تابع للمفسر، مرتبط وجوده بوجوده، ومما جاءت به من ذلك حرمة زواج المرأة على عمتها أو على خالتها، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، ولحم كل ذي ناب من السباع، أو ذي مخلب من الطير، وغير ذلك مما يدخل في نطاق قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ}[21]، وذلك مصداق قوله تعالى في سورة النحل: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ}[22]، وقوله تعالى: في سورة إبراهيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[23]، وقوله تعالى في سورة النحل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[24].

وهذا إلى أن الكتاب مقطوع بوروده جملة وتفصيلاً، أما السنة فمظنونة الورود تفصيلاً، ولا يصح القطع بورودها إلا بالنظر إلى جملتها، فإنا نقطع بأن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوالاً وأفعالاً وتقريرات في الأمور الشرعية قد أثرت عنه، وذلك ما أطلق عليه اسم السنة؛ ولكنا لا نقطع في أي حديث معين منها بأنه قد صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون متواترًا، ونادر فيها المتواتر، فكان القرآن لذلك في منزلة أعلى من منزلة السنة من حيث الاطمئنان إلى صحة ورودهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن درجة المظنون دون درجة المقطوع به.

وعلى هذا الوضع من تقديم الكتاب على السنة من حيث هو أصل وأساس للدين لما نزل به من أصوله الأساسية وقواعده الكلية، وأهدافه العامة التي بني عليها، فكانت السنة تابعة له ومبينة له لا تختلف عنه، وكان عمل الصحابة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى عنهم أنهم كانوا حينما تعرض عليهم حادثة بحثوا عن حكمها في كتاب الله، فإن لم يجدوا بحثوا عنه في سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يجدوا اجتهدوا، وهذا ما ارتضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من معاذ بن جبل حين أرسله قاضيًا إلى اليمن، فقد روي أنه - عليه السلام - قال له حين ذاك: ((بم تقضي؟))، فقال: أقضي بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: أقضي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإن لم تَجِدْ؟)) قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدره وقال: ((الحمد الله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله)؛ رواه أحمد، والترمذي، والدارمي، والبيهقي في "المدخل"، وابن سعد في "الطبقات"، وابن عبدالبر.

وليس يعني هذا الذي روي من صنيع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بحثهم عن حكم ما يعرض لهم من الحوادث أنهم حينما ينظرون في كتاب الله باحثين عنه لا ينظرون إلى ما عملوه من سنة في بيان ما يدل على الحكم المطلوب من الكتاب؛ بل معناه أنهم ينظرون في كتاب الله متطلبين معناه لتعرف الحكم منه، وذلك ما يستلزم النظر في السنة عند ذلك؛ لأن البحث عما يدل عليه الكتاب يستوجب البحث فيما ورد فيه من بيان صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شكَّ أنَّ هذا ما كان يَعْنِيه مُعاذٌ حين قال: أقضي بكتاب الله، فإن قضاءه لا يكون قضاء بكتاب الله إلا إذا كان على وفق معناه وما أريد منه، وذلك ما قد تكون السنة طريقًا إليه، فإن تركت حينئذ لم يكن القضاء عند تركها قضاء بكتاب الله ولا بما نزل به؛ بل قضاء بغير ما حكم الله، وذلك ما لا يكاد أن يكون محل ريبة عند ذي علم بما كان عليه أصحاب رسول الله حين بحثهم عن حكم ما يعرض لهم من حوادث، وهو ما يتفق مع ما جاء في الكتاب عن بيان السنة له؛ بل وما يعد مخالفته والإعراض عنه خروجًا عما أمر الله به في كتابه، مما دلت عليه الآيات التي أشرنا إليها فيما سبق، من وجوب طاعة الله وطاعة رسوله فيما جاء به من كتاب وسنة، فما كان كل منهما إلا وحيًا أوحي به إليه وأمر بتبليغه، هذا بلفظه الذي به نزل، وهذا بمعناه الذي عبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظه وعبارته، وما كانت التفرقة بينهما راجعة إلى تقديم أحدهما على الآخر في وجوب العمل والطاعة، وإنما كانت لإرادة الإعجاز بأولهما، وهو الكتاب وجعله حجة على نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان النظر فيه أولاً، لأنه الجامع لأصول الدين الهادي إلى الطريق، الكاشف عن معالِمِه، العاصم من الضلال فيه.

ومن ذلك يتبين أن ليس في حديث معاذ ما يدعو من ناحية متنه، وما يدل عليه إلى الشك فيه، وإلى محاولة رده من ناحية سنده، وأمَّا ما قيل فيه من أنه ليس بمتصل كما قال الترمذي، إذ رواه شعبة، قال: حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ - رضي الله عنه - فقد قال فيه الغزالي في "المستصفى": إنه حديث تلقَّته الأمة بالقبول، ودافع عنه ابن القيم في "إعلام الموقعين" في ناحية انقطاعه فقال: إن شهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، فإذا كان قد روي عن غير مُسمَّين فهم من أصحاب معاذ ولا يضرُّه ذلك؛ لأن ذلك دليل شهرته إذ لم ينفرد بروايته واحد منهم، بل رواه الحارث بن عمرو عن جمع منهم، وليس يعرف فيهم مُتَّهم ولا كذاب ولا مجروح؛ بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم[25].

ذلك ما يجب أن يكون عليه فهمنا لما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يبحثون عن حكم ما يعرض عليهم من الحوادث من الكتاب، إذ لا يستغني تعرُّف ما جاء به الكتاب من أحكام عن النظر في السنة، فقد جاءت كما بينا بيانًا له، ولا يستغني المبين عن بيانه، ألا يرى أن من آياته ما قد يحتمل أكثر من معنى، فتعين السنة المعنى المراد من المعاني المختلفة، وعندئذٍ يترك ما عداه، وأن من آياته ما يجيء مطلقًا فتقيده السنة، وما يجيء عامًّا فتخصصه السنة إلى غير ذلك من البيان، كبيانها للمراد من اليد في آية السرقة، وكبيانها لمن تصح له الوصية، ولمقدار ما يوصى به في آية الوصية، ولمن يكون حده الجلد إذا زنى في آية جلد الزاني، وما سوى ذلك من بيان ما يجب مراعاته والأخذ به عند النظر في الكتاب[26].

مِمَّا تقدم يتبين لنا كيف جاءت السنة مبينة للكتاب، وكانت لذلك تابعة له، دائرة في محيطه لا تخالفه ولا تخرج عنه، وذلك ما قد يدل على أنها لا تخالف الكتاب، ومن ثم لا تنسخه، وذلك ما ذهب إليه بعض العلماء وعلى رأسهم الشافعي - رضي الله عنه - فقد منعوا ذلك، مخالفين ما ذهب إليه الجمهور من أن الكتاب قد نسخ بالسنة في بعض ما جاء به من الأحكام، استنادًا منهم إلى أن آية الوصية - وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ * فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[27] قد نُسخت بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا وصية لوارث))، وإلى أن آية جلد الزاني - وهي قوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}[28]، قد نسخت بأحاديث الرجم في المحصن، وغير ذلك مما لا يرى فيه هؤلاء المانعون دليلاً لهم فيه على جواز نسخ السنة للقرآن، ولا على وقوعه، إذ الواقع أنه لا نسخ في هذه الآيات، وذلك ما ذهب إليه كثير من العلماء كالشافعي وأكثر أصحابه، وكثير من الأصوليين، وهو مذهب أهل الظاهر ورواية عن أحمد، وقد يكون هذا هو رأي أكثر من ذهب إلى جواز نسخ القرآن بالسنة من الناحية العقلية لا الواقعية؛ ذلك لأن من ذهب إلى جواز ذلك إنما جوزه مشترطًا أن يكون الناسخ من السنة متواترًا، وتحقق التواتر في الأخبار أمر لا يكاد يوجد، وفيه من الشك والاختلاف ما يقضي بعدم وجوده، وعلى ذلك فليس يوجد بالسنة ما يصلح ناسخًا للقرآن، ويكون البحث في هذه المسألة بحثًا في غير واقع، أو نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه؛ كما قال الشاطبي[29].

أمَّا من ذهب من الفقهاء إلى إلحاق المشهور من السنة بالمتواتر في جواز نسخ القرآن به، وهو ما نسب إلى الحنفية، فذلك مذهب بعيد عن الصواب - والمسألة مفصلة في عمل الأصول فيرجع إليها من يشاء.
ونتيجة لما تقدم يتبين سلامة ما قررنا من أن السنة تابعة للكتاب، وأنها في درجة أدنى من درجته، وأنها ترجع دائمًا في معناها، وفيما تأتي به إلى الكتاب وأصوله، وأنها مبينة له، تفصل مجمله، وتبين مشكلة، وتقيد مطلقة، وتخصص عامه، ولا تأتي بشريعة جديدة إلا كان القرآن دالاًّ عليها دلالة إجمالية، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}[30].
وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[31]، وعلى هذا فما يجيء من الأخبار معارضًا للقرآن لأصوله وأحكامه يجب رده، وتقديم القرآن عليه، إذ إن ذلك من أوجه الطعن في الخبر المسقطة له كما قرر ذلك علماء الحديث.

ومن أجل ذلك أمر الله بطاعة رسوله، وكان أمره بذلك على أوضاع مختلفة؛ وبأساليب متعددة، وبدلالات عديدة، وثقت هذا الأمر، وأكدت هذا الوجوب، وعززت هذا الطلب، فجاء أمره صريحًا في كثير من الآيات في مثل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}[32]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[33] وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[34] وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[35].
وكذلك جاء أمره بذلك مقرونًا ببيان عاقبته مثل قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً}[36]، وقوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[37]، وقوله في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[38].
وكما جاء أمره بذلك أيضًا مقرونًا بالتحذير من مخالفته؛ مثل قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[39]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً}[40].
بل إنه سبحانه وتعالى قد جعل من لوازم الإيمان أنَّهم إذا كانوا معه على أمر جامع لا يذهبون مذهبًا إلا بإذنه، قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}[41]، والآيات في ذلك عديدة والآثار كثيرة، وفيما ذكرنا الكفاية، فليس في وجوب امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم - بعد الذي ذكرنا محل ريبة مرتاب، ولا شك متردد، وعلى هذا كانت السنة هي الأصل الثاني من أصول الدين، والمصدر الثاني من مصادر الأحكام الشرعية، وكان ذلك وضعها في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، ولا تزال على ذلك إلى يومنا هذا، وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

وجوب العمل بالسُّنَّة:
لقد بان مما تقدَّم أن السنة أصل من أصول الدين، وأنها المصدر الثاني للأحكام الشرعية، وأن العمل بها واجب؛ لأنه طاعة لله ولرسوله، وأن تركها ومخالفتها ترك لكتاب الله، ورفض لما أمر به، وذلك ما يقضي به كتاب الله فيما ذكرنا وأشرنا إليه من آيات، وهو ما اتفق عليه المسلمون وأجمعوا عليه، وجرى عليه العمل في عهده - صلى الله عليه وسلم - وفيما تلاه من عهود، وذلك ما لا ريب فيه بالنسبة إلى السنة جملة، وبالنسبة إلى ما تواتر منها إفرادًا وتفصيلاً، للقطع بصحة النسبة عندئذٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما عند النظر إلى السنة إفرادًا وتفصيلاً، فإننا لا نقطع بصحة نسبة حديث معين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا كان متواترًا، فإذا لم يكن متواترًا لم نقطع بصحة نسبته، وأمكن حينئذ أن يصل الظن إلى ما يترجح معه وروده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلى ما لا يترجح معه ذلك، وذلك ما يكون نتيجة للبحث والنظر في حال السند والمتن، بمراعاة القواعد والضوابط التي أرشد إليها علماء الحديث، وثبتتها القواعد العلمية المتعلقة بنقل الأخبار وصحتها.

فإذا ما انتهى باحث من بحثه في حال حديث إلى ترجيح وروده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغلب ذلك على ظنه، وسلم مع ذلك من النسخ في ظنه، فقد وجب عليه العمل به، إذ إن وجوب العمل شرعًا منوط بالظن لا بالقطع، فذلك ما قام عليه الدليل القطعي، كما هو مبين في موضعه، وإذا ما انتهى بحثه إلى خلاف ذلك لم يجب عليه العمل به، وإن وجب على غيره ممن نظر وبحث فانتهى إلى غير ما انتهى إليه هذا الباحث من ترجيح صدوره عن الرَّسول - صلَّى الله علَيه وسلّم - وعدم ورود المعارض له، وكثيرًا ما رأَيْنا أنَّ منَ الأئمة مَن لم يعمل ببعض ما رواه منَ الحديث، إمَّا لظن نسخه وإمَّا للشَّك في صِحَّة نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما نرى غيرهم منَ الأئمة قد عمل به، ولقد وجد أبو بكر الأبهري أنَّ في موطأ مالك نيفًا وسبعين حديثًا، ترك مالك نفسه العمل بها مع روايته لها.

وبناءً على ذلك فإنَّا نريد في بحثنا هذا أن نعمد إلى ما وجه من شبه ومطاعن إلى السنة جملة من حيث روايتها، وما وجه من طعون إلى حجيتها، لا بالنظر إلى حديث معين فنبين زيف ذلك وبطلانه، أما ما وجه من ذلك إلى حديث معين أو إلى سند معين، أو راوٍ معين، فذلك من الموضوعات الجزئية التي تتعدد بتعدد متعلَّقها، ولا يعد ما تحويه من شبه ومطاعن موجهًا إلى السنة من حيث إنها أصل من أصول الأحكام الشرعية واجب التطبيق، وما كان من ذلك فقد وضعت فيه كتب ورسائل مستقلة منها المطول ذو الإطناب، ومنها المختصر ذو الإيجاز، وليس مما يتسع له بحث كبحثنا هذا، وذلك لما قصد منه من درء ما يوجه الآن إلى السنة من شبه من حيث إنها أصل وحجة في الدين، ولا يجوز خلافها، وما وجه إلى روايتها من حيث إنها طريق سليم لنقلها إلينا كما صدرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وفيما يأتي لما وجه إلى السنة من شبهات وشكوك في العصر الحاضر، وسنرى أنَّ منه ما يتعلق برواية السنة، ومنه ما يتعلق بوجوب العمل بها على وضع دائم لا يتغير بتغير الزمن، ولا يختلف باختلاف الأمم.

ما وجه إلى روايتها:
ذكرنا أن وجوب العمل بالحديث منوط بصحة نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقينًا أو ظنًّا فما صحت نسبته إليه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل القطع، كالحديث المتواتر، أو ظنًّا كالحديث الصحيح من الآحاد، وجب العمل بمقتضاه، وحرمت مخالفته، وما لم يتحقق فيه ذلك لم يجب العمل به.

وقد كانت عناية رجال الحديث بالسند ورجاله في سبيل توثيقهما والحكم على الحديث بصحة نسبته أو بعدم صحتها - عناية فائقة، لم يجد معها المغرضون ولا الناقدون أية ثغرة ينفذون منها إلى توجيه أي نقد ينال من الأسس والقواعد التي وضعت لوزن الأسانيد ورجالها، وما بني على ذلك من أحكام كان لها آثارها في الحكم على الحديث قوة وضعفًا وقبولاً وردًّا، كما كان لها الأثر البالغ في التعرف على كثير من الأحاديث الموضوعة؛ وتمييزها من الأحاديث الصحيحة، وقد كانت هذه القواعد والأسس نتيجة بحث دائب في بيان حال الرواة وسيرتهم، وعمن أخذوا عنه، وعمن أخذ عنهم، ومن عاصرهم ومن لم يعاصرهم، وفي بيان من عرف منهم بالضبط، والحفظ، والاتفاق، والصدق، ومن كان منهم على خلاف ذلك من الكذب والوضع أو السهو، أو سوء الحفظ، أو التدليس، أو عدم الضبط، وفي بيان طرائق سماعهم وتحملهم، وذلك بحسب ما وصل إليه جهدهم، وانتهى إليه تحريهم وبحثهم.

ولم تصل أمة من الأمم إلى ما وصلت إليه الأمة الإسلامية في ذلك من الدقة والتحقيق، وفي وضع الأسس والقواعد التي يبنى عليها الحكم على الأخبار وروايتها، ولهذا كان ما وجه من النقد إلى السنَّة من بعض المستشرقين أو الناقدين المغرضين أو غير المغرضين، ومن لف لفهم وخدع بأفكارهم موجهًا أكثره إلى ناحية المتن، فقد زعموا أن رجال الحديث لم يعنوا بالمتن عنايتهم بالسند، وأن ما وضعوه في سبيل الحكم على المتن من القواعد لم يكن كافيًا لتمييز الصحيح من غيره، مما كان سببًا في عدم التعرف على كثير من الأحاديث الموضوعة، واختلاطها بالأحاديث الصحيحة، وكان ذلك بناءً على ما وصل إليه تحريهم وبحثهم في سلامة أسانيدها، وتوافر الثقة في رجالها، وهي ثقة كما نعلم قامت على التحري، والسماع، والتقدير، وذلك أمر يتعرض للخطأ، وتختلف فيه الأنظار باختلاف الناس وتفاوتهم في أفكارهم وأنظارهم وبحوثهم، ويؤيد أصحاب هذا الرأي رأيهم هذا بذكر بعض أحاديث وردت في الصحاح، يرونها من ناحية ما دلت عليه غير مقبولة في عقولهم، أو معارضة لما هو معروف مسلم لديهم من الوقائع والقضايا، وذلك مثل ما أخرجه البخاري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من اصطبح كل يوم تمرات عجوة، لم يضره سم، ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل))، وفي رواية: ((سبع تمرات عجوة))، وفي رواية أخرى: ((من تصبح كل يوم بسبع تمرات))، ومثله لمسلم عن سعيد بن أبي العاص، وروى مسلم أيضًا عن أنس بن مالك: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((متى تقوم الساعة؟))، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال: ((إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة))، قال أنس: ذاك الغلام من أترابي يومئذ، وقد مات أنس سنة 93 هـ وهو ترب الغلام والواقع أن هذا النقد لا يخلو من حيف وجور في الحكم على الجهود التي بذلها علماء السنة للحكم على الحديث من ناحية متنه، وإذا كانت جهودهم في هذا المجال من حيث التفصيل والمادة دون جهودهم في سبيل الحكم على السند ورجاله، فإن ذلك التفاوت لا يرجع إلى نقص أو تقصير بالنسبة لما يتطلبه النظر في المتن وحاله والحكم على الحديث بناء على ذلك، وإنما يرجع إلى أنَّ أحوال المتن ليس لها ما لأحوال السند من تنوع وتعدد واختلاف، مما أدى إلى كثرة البحوث والعلوم المتعلقة بالسند، ولم يغفل علماء الحديث النظر في المتن، وما يجب أن يتوافر فيه من الصفات الدالة على صحته، وما يجب أن يبرأ منه المتن من العلامات والشواهد التي إذا وجدت فيه دلت على وضعه مما هي كفيلة بالتعرف على أي حديث موضوع، وتمييزه عند مراعاتها.

وهذا بيان أهمها في إجمال:
(1) ركاكة معناه وضعفه: قال الحافظ ابن حجر ما خلاصته: ركاكة معنى الحديث يدل على وضعه، وإن لم ينضم إلى ذلك ركاكة في لفظه، لأن الدين كله محاسن والرداءة والضعف مما ينأى عنه الدين.

(2) فساد معناه: وذلك بأن يخالف ما تقضي به العقول السليمة دون إمكان تأويله، كأن يخالف البدهيات، أو ما هو معروف مسلم به من القواعد العامة في الحكم والأخلاق، أو داعيًا إلى الاستجابة إلى الشهوة والمفسدة أو مخالفًا للحس والمشاهدة، أو لقطعيات التاريخ، وللسنن الكونية أو لبدهيات الطب، أو المعقول في أصول العقيدة من صفات الله ورسله، أو مشتملاً على سخافات لا تصدر عن عاقل، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع.
وقال في "المحصول": كل خبر أوهم باطلاً، ولم يقبل التأويل فمكذوب، أو قد نقص منه ما يزيل الوهم.

(3) مخالفته للكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي: قال ابن قيم الجوزية: ومن الأمور التي يعرف بها أن الحديث موضوع مخالفته صريح الكتاب، كحديث مقدار مدة الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة؛ لمخالفته قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي}، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، ومن ذلك أيضًا مخالفته صريح السنة المسلم بها شهرتها أو لتواترها.

(4) مخالفته الوقائع التاريخية المقطوع بصحتها: وذلك مثل ما رواه مسلم بسنده عن أبي وائل قال: خرج علينا ابن مسعود بصِفِّين، فقال أبو نعيم: أتراه بعث بعد الموت؟ إذ قد توفي قبل ذلك، ومثل ما رُوِيَ من أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وضع الجزية عن أهل خيبر ورفع عنهم الكلة والسخرة بشهادة سعد بن معاذ، وكتابة معاوية بن أبي سفيان، مع أن الثابت أن الجزية لم تكن مشروعة عام فتح خيبر، وإنَّما نزلتْ آيةُ الجزية بعد تبوك، وأنَّ سعدًا توفي قبل ذلك في غزوة الخندق، وأنَّ معاوية إنَّما أسلم عام الفتح.

(5) صدور الحديث من راوٍ تأييدًا لمذهبه وهو متعصب مغالٍ فيه: وذلك كالأحاديث التي صدرت من أتباع المذاهب الفقهية والكلامية، تأييدًا لمذاهبهم أو مذهب إمامهم مثل: "من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له"، ومثل: "المضمضة والاستنشاق للميت ثلاثًا فريضة"، ومثل "من قال القرآن مخلوق فقد كفر".

(6) اشتمال الحديث على إفراط في الثواب العظيم جزاء عمل صغير، أو اشتماله على مبالغة في الوعيد الشديد على الأمر الحقير: وذلك كالأحاديث التي وضعها القصاص في ثواب بعض الأعمال، وفي جزاء بعض الجرائم والمخالفات.

(7) أن يتضمن الحديث أمرًا من شأنه أن تتوفر الدواعي إلى نقله؛ لأنَّه وقع بمشهد عظيم، ثم لا يشتهر ولا يرويه إلاَّ واحد: وبِهذا حَكَمَ أهل السنة على حديث غيرهم بالوضع، وهو الحديث المتضمن النص على خلافة علي ووصايته[42].

ولا شكَّ أن هذه أسس سليمة رصينة محكمة كفيلة بتمييز الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الصحيحة، لا يسع المنصف أن ينازع في قوتها وإحكامها وكفايتها، ومع هذا لم يكتفِ رجال الحديث بها في سبيل نقد المتن، بل نقدوه مع ذلك من ناحية اضطرابه أو شذوذه أو إعلاله، كما بحثوا فيما وقع فيه من قلب أو غلط أو إدراج، إلى غير ذلك من العلل التي عني العلماء ببيانها وشرحها فيما وضع في ذلك من الكتب.

وقد رأيت فيما سبق أنَّ ما وضع من موازين وضوابط للتعرف على ما في الأحاديث من قوة وضعف لم يكن الهدف منه الوصول إلى القطع بصحة نسبة الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان الغرض منه الوصول إلى غلبة الظن بصحة تلك النسبة، ولذا قالوا: إن ما حكم بصِحَّته من أحاديث الآحاد قد يكون في واقع الأمر غَيْرَ صحيح؛ ولكن هذا احتمال ضعيف لا يحول دون وجوب العمل كما قدمنا، ولقد ذكر أصحاب هذا النقد أنه كان من الواجب أن يؤسس نقد المتن أيضًا على أُسُسٍ أُخْرى لم تنل من علماء الحديث عناية وهي:
(1) اتِّفاق ما ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول مع الظروف التي قيل فيها، وعدم معارضته للحوادث التاريخية الثابتة.

(2) خلو الحديث من التفسير الفلسفي الذي يخالف المألوف من بيانه - صلى الله عليه وسلم - وخلوه من الأساليب الفقهية التي تتعرض لذكر الشروط والأركان، وما إلى ذلك مما لم يكن معروفًا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم.

(3) انطباق الحديث على الواقع، وعدم وجود باعث سياسي أو نفسي دعا إلى وضعه.

ذلك ما ضمنه الناقد نقده، ولو تهيأ له أن يكون واسع الاطلاع دقيق النظر؛ لتبين له أن كل ما ذكره من ذلك تتضمنه تلك القواعد السابقة، ولم يفت رجال الحديث مراعاته في نقد المتن، فقد ردوا حديث دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمام بناء على أن النبي - صلوات الله عليه - لم يدخل حمَّامًا قط، وأن الحمامات لم تكن معروفة في الحجاز على عهده - صلى الله عليه وسلم - وكذلك ردوا حديث وضع الجزية عن أهل خيبر؛ بناءً على أنه مخالف لما علم تاريخيًّا من أن شرعيَّة الجزية لم تشرع إلاَّ بعد فتح خيبر، وردوا بعض الأحاديث لمخالفتها للواقع، وذلك كحديث: ((لا يولد بعد المائة مولود لله فيه حاجة))، وحديث ((الباذنجان شفاء من كل داء)) وردوا ما رواه غلاة الشيعة من أحاديث في فضل علي، وما رواه غلاة البكرية من أحاديث في فضل أبي بكر، لوجود الباعث السياسي على وضعها، وردوا كذلك حديث ((رمدتُ فشكوتُ إلى جبريل فقال: أدِم النَّظر في المُصحف))، لأنَّه لا يتَّفق مع البيئة التي قيل فيها، إذ لم يكن على عهْدِه - صلَّى الله عليه وسلم - مصاحف، وكذلك ردوا أحاديث أخرى لوجود الباعث النَّفسي على وضعها؛ كحديث: ((الهريسة تشد الظَّهر))، ذلك لأنَّ رَاوِيه كان ممن يصنَعُ الهريسة.

وردُّوا كذلك كثيرًا منَ الأحاديث؛ لما فيها مِن عبارات واصطلاحات فِقْهيَّة لم تكن معروفة على عهده - صلَّى الله عليه وسلم - والأمثلة من ذلك كثيرة أشِير إليها في "نصب الرَّاية في تخريج أحاديث الهداية" للزَّيلَعِيّ، وهكذا يرى أنَّ كل ما زعم النَّاقدون استدراكه على علماء الحديث لم يغفلوه؛ بل راعَوْه وذهبوا إلى
ayb
ayb
زعيم المحترفين
زعيم المحترفين

عدد المساهمات : 939
نقاط : 1060131
السٌّمعَة : 8
تاريخ التسجيل : 24/12/2011

بطاقة الشخصية
nda: 30000

https://talib.hooxs.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى